الأحد، 11 يناير 2015

موسيقى الجاز




في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان سكان مدينة “نيو أورليانز” على نهر المسيسيبي الهادئ يتكوّفنون من خليط من المهاجرين الأسبان والإنجليز والفرنسيين، ويفكوّفنون طبقة الأسياد، وكان كل منهم يمتلك عددًا وفيرًا من العبيد الذين يسخرونهم في جميع الأعمال، وخاصة الزراعة.

من هذه المدينة خرج نجوم موسيقى الجاز الأمريكي مثل لويس أرمسترونج، وأوليفر، وكثيرون غيرهما أخذوا ينشرون هذا الفن في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها وفي أنحاء العالم.

جدير بالذكر أن جميعهم من السود، أما أسماؤهم الأوروبية فهي أسماء أسيادهم الذين كانوا يمتلكونهم منذ استورد تجار الرقيق أجدادهم من إفريقيا في القرن السابق.

ظهر هذا النوع من الموسيقى نتيجة لظروف تاريخية واجتماعية، أهمها إلغاء نظام الرق والعبودية عام 1863 على يد الرئيس “أبراهام لينكولن” من جهة، ونهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865 من جهة أخرى.


أصل الحكاية

وهكذا وجد الزنوج أنفسهم أحرارًا في مدينة “نيو أورليانز” التي تكثر فيها علب الليل وصالات الرقص الأوروبي، مثل: “الفالس” و”البالكا”، وتنتشر في جميع أحيائها، وخاصة في شارع “رامبارت”، هذا بخلاف الفرق النحاسية الصغيرة الكثيرة التي كانت تجوب شوارع المدينة نهارًا، ودار الأوبرا الفرنسية بها.

إلا أن الزنوج جلبوا معهم من إفريقيا – موطنهم الأصلي – تراثهم من إيقاعات وألحان احتفظوا بها وتوارثوها من جيل إلى جيل؛ لأنهم كانوا يرددونها في أثناء العمل في حقول القطن أو في أثناء سمرهم في ميدان “الكونجو” بعد ظهر أيام الأحد، وهو عطلتهم الرسمية الأسبوعية.

وكان أهم ما يلفت نظر الأوروبيين هي تلك الطبول الكبيرة التي تسمى “تام تام” أو “بامبولاسي”.

وكان الأوروبيون يتسلون بالفرجة على عبيدهم في سهرات موسيقية أقرب إلى المزاح، وامتزجت تلك الألحان والإيقاعات الإفريقية الأصل مع ما تعلمه الزنوج من ألحان الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية، وأيضًا مع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات روحهم المكتئبة المتأثرة بالروح الوثنية، وأيضًا امتزجت بالموسيقى الأوروبية التي كانت منتشرة في كل مكان كما سبق القول.

وكانت تلك هي العناصر المتباينة التي يرجع إليها أصل موسيقى الزنوج في أمريكا، والتفت الزنوج حديثو التحرير حولهم، فوجدوا عددًا كبيرًا من الآلات النحاسية مثل الساكس فون والترمبيت المبعثرة هنا وهناك، تلك التي تركتها فرق الموسيقى العسكرية بعد نهاية الحرب الأهلية، فجمعوها وأخذوا ينفخون فيها، محاولين عزف تلك الألحان المحفوظة أو المارشات العسكرية التي طالما استمعوا إليها أو أية أنغام تخرج منهم تلقائيًا.

وهكذا بالفطرة ابتكروا – وهم لا يدرون – أسس موسيقى الجاز، كما أصبحت الآلات النحاسية هي الآلات الأساسية لعزفها.

المعروف أن العزف على آلات النفخ النحاسية أسهل بكثير من أية آلات أخرى، ويمكن استخراج الألحان البسيطة منها بدون دراسة أو تعليم.


الجاز أبيض وأسود

وفي عام 1895 تكونت في مدينة “نيو أورليانز” أول فرقة تعزف موسيقى الجاز برئاسة حلاق اسمه “بادي بولدن”، الذي كان حلاقًا بالنهار وعازف “كورونيت” بالليل.

أما الموسيقى التي تعزفها هذه الفرقة ليست مدونة، بل تعتمد أساسًا على الارتجال المشترك والانطلاق بالأصوات في كل اتجاه.

ثم أخذت فرق الموسيقى الجاز تنتشر وتجذب إليها جمهورًا متزايدًا من الشباب، ثم استطاعت أن تحتل مكانًا بارزًا في صالات الرقص والحدائق العامة ومناسبات الزواج، وحتى في السير أمام الجنازات.

وحيث إن هذه الفرق كانت كثيرة التنقل من مكان إلى آخر، لم يدخل البيانو في تكوينها إلا في وقت متأخر، حوالي عام 1920.

ومنذ بداية القرن العشرين أخذ الموسيقيون البيض يكوّفنون فرقًا مماثلة متخصصة في عزف موسيقى الجاز قاموا بتدوينها بالنوتة، ولكنهم لم يصيبوا نجاحًا كبيرًا؛ لأن الروح الزنجية كانت تعوزهم، وكذلك لم يستطيعوا تقليد أسلوبهم الذي كان يصدر منهم بالفطرة والسليقة.

ولكن الموسيقيين البيض استطاعوا ابتكار نوع جديد من موسيقى الجاز أطلق عليه اسم “ديكسي لاند” أخذ ينتشر تدريجيًا في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الأفلام السينمائية وشركات الأسطوانات حتى قامت الحرب العالمية الثانية.

ولم يتوقف تطور موسيقى الجاز التي أصبحت موسيقى الرقص بأنواعه، مثل: “الشارلي ستون” و”السوينج”، وانتلقت زعامة موسيقى الجاز من مدينة “نيو أورليانز” إلى مدن أخرى مثل شيكاغو التي تكثر فيها الملاهي الليلية التي كانت تحرص على أن تعمل بها تلك الفرق، ثم انتشرت فرق الجاز في مدن أخرى، مثل: بالتيمور، وواشنطن، ونيويورك، وبوسطن، وفي كل مدينة كانت فرق الجاز تحاول أن تضم إليها عازفيين من مدينة “نيواورليانز” التي كانت تعتبر المعهد الذي تخرَّج منه أشهر العازفين وأمهرهم في الارتجال.


أنواع الجاز

إلى هذا الوقت كانت فرق موسيقى الجاز تتكون من سبعة أو ثمانية عازفين، ثم ظهر في مدينة نيويورك، وفي حي “هارلم” بالذات – والذي يسكنه الزنوج بصفة عامة – “فلتشر هندرسون” و”ديوك ألبينجتون”، وكانا من الموسيقيين الدارسين، وقد قاما بمضاعفة عدد العازفين في فرقتهما، وكتبا النوتات الموسيقية لكل عازف، وقللا من فواصل الارتجال التي كانت من خصائص هذا النوع من الموسيقى، وأطلق على هذا النوع “الجاز الجاد”.

وصادف هذا التجديد نجاحًا كبيرا، وزاد عليه الطلب في فنادق نيويورك الفاخرة العديدة وفي الملاهي الليلية، وحتى في الحفلات التي كانت تقيمها الجامعات والمدارس في مختلف المناسبات.

وشجّع هذا النجاح الفرق الأخرى؛ فسارت على خطاها، كما ظهر في الثلاثينيات عدد كبير من الموسيقيين البيض المهرة من خريجي المعاهد الموسيقية؛ حيث كوَّنوا فرقًا لموسيقى الجاز، نالت شهرة واسعة بفضل تعاقدها مع محطات الراديو العديدة وتسجيل الأسطوانات.

وابتداء من سنة 1945، بدأ الموسيقيون في فرق الجاز ثورة ضد الوظيفة التقليدية للموسيقى التي يعزفونها، وهي تحريك أرجل الراقصين؛ لأنهم كانوا يشعرون أنهم يقدمون للجماهير فنًا يستحق الإصغاء إليه في سكون تام، وبأنه فن جديد يخاطب المشاعر ويرتفع إلى المستويات السيمفونية، ولم يعد يشترك في أدائه عازفون بالسليقة، بل أفضل خريجي المعاهد الموسيقية.

وهكذا أخذت موسيقى الجاز طريقًا جديدًا؛ فاختفى منها الارتجال وقلّ استعمال الإيقاعات الساخنة، وأصبحت المؤلفات الجديدة تميل إلى البطء وإلى التعبير العاطفي في ألحان ذات طابع غنائي مؤثر، وأطلق على هذا النوع من موسيقى الجاز اسم “الجاز البارد”.

وفي هذه الفترة أيضًا ظهرت البوادر الأولى لفرق “السيمفو جاز”، وهي عبارة عن تكوين موسع يشتمل على آلات الأوركسترا السيمفوني الكامل، مضافًا إليه آلات فرق الجاز التقليدية.

وكان أول من أقدم على هذا التطور هو “جيل إيفانز”، وتلاه عام 1955 “جنتر شولر” وغيرهما.


العودة إلى الجذور

ولكن على الرغم من هذا الاتجاه التوسعي في كتابة موسيقي الجاز، فلم تختف أبدًا الفرق الصغيرة التي كانت تسير على روح الجاز الأساسية التي تنبع من الإيقاعات الساخنة السريعة والارتجال أو التعبير الذاتي المنطلق على سجيته دون قيود.

وهكذا ظهر “الروك أند روك” في أوائل الستينيات، وكان “سيسيل تايلور”، وهو عازف بيانو أول من نادى بالعودة بالجاز إلى أصوله القديمة بعد أن كان قد بلغ في سموه أرفع المستويات.

ولا يجب أن نغفل ذكر امتزاج موسيقى الجاز الأمريكي بموسيقى دول أمريكا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين منذ العشرينيات، وما أدخلت عليها تلك البلاد من إيقاعات مبتكرة ورقصات جديدة، مثل: التانجو، والرومبا، والسامبا، والتشاتشا، وغيرها، بالإضافة إلى آلات الإيقاع الشعبية في تلك البلاد مثل القرع والشخاشيخ والنقارات.

وهكذا نرى أن موسيقى الجاز عبر تاريخها لم تنقطع عن التطور والتغيير؛ فترتفع أحيانًا إلى المستويات السيمفونية، وترتد أحيانًا أخرى إلى أصولها البدائية، وأهم ما يلفت النظر أن تلك الموسيقى التي انطلقت من مدينة “نيو أورليانز” انتشرت في جميع أنحاء العالم.

كذلك تطورت مهرجانات الجاز؛ فقد بدأت إقامتها بصفة دورية في الخمسينيات، وكانت في البداية محلية، تتبارى فيها الفرق الأمريكية بتقديم أحدث إنتاجها وأفضل نجومها في الغناء أو العزف.

ثم أخذ نطاق تلك المهرجانات يتسع؛ حتى أصبحت دولية، تشترك فيها فرق الجاز من مختلف أنحاء العالم؛ لتلفت إليها أنظار شركات الأسطوانات، فتتعاقد معها أو تحتكرها بأجور مرتفعة.

ولم تمض سنوات قليلة حتى تكونت هيئة دولية لتنظيم تلك المهرجانات، وأخذ عددها يزداد كل سنة مع مراعاة إقامتها في مختلف عواصم العالم، كما أصبح لها لجان تحكيم دولية تمنح الفرق الفائزة جوائز مالية كبيرة.



بقلم : محسن الصياد

السبت، 10 يناير 2015

سيد درويش .. سيرة حياة وموسيقى




تاريخ ميلاده:

ولد سيد درويش في الساعة التاسعة من صباح يوم 17/اذار سنة 1892 بحي كوم الدكة بالإسكندرية.


أبواه:

كان أبوه درويش البحر بحاراً فقيراً له ورشة صغيرة في كوم الدكة وكان يصنع القباقيب والكراسي الخشبية ويحصل على رزقه هو وأسرته بصعوبة شديدة، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب وكانت أمه أسمها (ملوك) كانت سيدة من أسرة فقيرة أيضاً وكانت أمية هي الأخرى وكانت قد سبقته الى الدنيا شقيقتان تكبرانه قليلاً.


حي كوم الدكة:

حي من الأحياء الشعبية الفقيرة يسكن فيه عمال المعمار من بنائين ونجارين ونقاشين.. الخ، ولهذا الحي تاريخ مجيد في النضال الشعبي ضد الغزاة الأجانب وضد الولاة الأتراك.


نشأته:

كان أبوه يريد أن يراه شيخاً معمماً يحفظ القرآن ويجوده وأدخله كتاب حسن حلاوة بالحي نفسه فتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ قسطاً من القرآن الكريم وكان شغوفاً في طفولته بالاستماع الى الشيوخ الذين يحيون المولد النبوي ويحفظ عنهم ويقلدهم أمام أطفال الحي.

وفي سن العاشرة كان قد أجاد القراءة والكتابة وحفظ قسطاً كبيراً من القرآن وعندئذ توفى أبوه فصممت أمه على أن يتم تعلمه كما أراد أبوه ونقلته الى مدرسة أولية تصادف من كان فيها معلم يهتم بتحفيظ الأطفال الأناشيد الدينية والقومية وأسترعى الطفل سيد درويش انتباهه فخصه بعنايته وجعله يقود الأطفال في ترتيل الأناشيد، ونمت معه موهبته وخرج من حدود الحي وأصبح يرتاد الأحياء الشعبية الأخرى ويستمع الى مشاهير الشيوخ المقرأين والمطربين الذين يحيون الأفراح والمواليد الدينية واشترت له أمه ملابس رجال الدين وهو غلام في الثالثة عشر من عمره وتقدم للالتحاق بالمعهد الديني التابع لأحد مساجد الإسكندرية وهو مسجد (العباس- المرسى) لكي يتم حفظ القرآن وتجويده، وكان شغوفاً بالقراءة والإطلاع ويقرأ كل ما يقع في يده من كتب وصحف عربية.


بدء حياته الفنية:

وفي سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة وجد انه يستطيع أن يكسب عيشه وعيش أسرته من الغناء في الأفراح والموالد بما حفظه من التواشيح والأناشيد الدينية فتوقف عن الدراسة وتفرغ للغناء والإنشاد وكان بالطبع مقلداً لمشاهير المطربين والمقرئين.
وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 1907 وما بعدها فكسدت سوق الفنانين وأصيبوا بالبطالة، ولما كان سيد درويش قد أصبح المسؤول عن أمه وشقيقاته فقد خلع ملابس الشيوخ واشتغل مع عمال المعمار مساعد نقاش مهمته أن يناول النقاش المونة، وفي أثناء العمل كان يغني فكان العمال الذين يشتغلون في البناء يطربون أشد الطرب ولاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم إذا كان العامل سيد درويش يغني لهم، فطلب إليه أن يتوقف عن العمل وأن يكتفي بالغناء للعمال.

وكان أمام العمارة التي يشتغل عليها مع زملائه مقهى متواضع تصادف أن جلس فيه ممثل أسمه أمين عطا الله (وكان ذلك سنة 1908) وعن شقيق سليم عطا الله صاحب الفرقة التمثيلية التي تعمل في الإسكندرية وسمع صوت هذا العامل الفنان وسرعان ما تقدم إليه وعرض عليه العمل في فرقة أخيه ولم يتردد سيد درويش والتحق بالفرقة ليغني مع الكورس وليؤدي منفرداً بعض الأغاني بين فصول المسرحية.

وفي السنة نفسها سافر مع الفرقة الى لبنان ولكن الفرقة فشلت ولم تلق إقبالاً بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وتشتت أفراد الفرقة وظل سيد درويش ببيروت ودمشق وحلب يكسب عيشه بقراءة القرآن في المساجد ويبحث عن أساتذة الموسيقى ليتعلم عليهم أصول الموسيقى الشرقية ويحفظ عنهم التراث القديم كله.

وبعد أن قضى في الشام قرابة تسعة أشهر عاد الى الإسكندرية واستمر يشتغل بالغناء والإنشاد في الأفراح والموالد والمقاهي الشعبية حتى أعتاد سليم عطا الله تأليف فرقته التمثيلية سنة 1910 فأنضم سيد درويش إليها.


الرحلة الثانية:

وفي خلال عمله بالإسكندرية بعد عودته من لبنان خرج من دائرة التقليد وترديد ألحان الآخرين وبدأ يؤلف ألحانه الخاصة ولكنه بسبب صغر سنه كان يخشى أن يجاهر بأنه يؤلف الموسيقى فكان ينسب الألحان الى الملحنين المشهورين فكانت تقابل بالاستحسان الشديد.

ثم سافر مع سليم عطا الله الى لبنان في رحلتها الثانية التي نجحت هناك نجاحاً مكنه من البقاء هناك فترة أطول (أكثر من سنة) حضر فيها على كبار أساتذة الموسيقى ومنهم الشيخ إبراهيم الموصلي استكمل فيها دراسة علوم الموسيقى العربية وحفظ عن ظهر قلب حفظاً كاملاً كل التراث العربي، ثم عاد الى الإسكندرية سنة 1912 واستمر يعمل في الأفراح والمقاهي الشعبية واستفاضت شهرته وبدأ يجاهر بأنه ملحن ويقدم للناس ألحانه بنفسه وكانت تقابل بالاستحسان وتنتشر على ألسنة الناس.


في القاهرة:

وجاءت أخباره الى القاهرة وتردد أسمه في الأوساط الفنية فكان كبار فناني القاهرة إذا زاروا الإسكندرية يبحثون عن المقهى الذي يغني فيه الشيخ سيد درويش ليسمعوه، ومن هؤلاء الفنانين المغني المشهور الشيخ سلامة حجازي الإسكندري الأصل الذي كان صوته أجمل وأقوى الأصوات في عصره حتى أنه عندما جاء مغني الأوبرا الإيطالي كاروزو الى القاهرة لإحياء موسم فيها سمع عن سلامة حجازي وذهب الى المسرح الذي كان يغني فيه، وعندما سمعه قال: "الحمد لله لو ولد هذا الرجل في أوروبا لما أحتل كاروزو مكانة أعظم مغن في عصره.

سمع سلامة حجازي صوت سيد درويش وألحانه فذهل وتعرف به وشجعه على الحضور الى القاهرة ليقدمه على مسرحه، وفعلاً حضر سيد درويش وقدمه سلامة حجازي للجمهور بين فصول الرواية التي كانت تمثلها فرقته وغنى سيد درويش من ألحانه غناء لم يكن مألوفاً وقتها ولكن الجمهور لم يرض عنه خصوصاً وأن صوته لم يكن في جمال صوت سلامة حجازي فقوبل بالصفير والاستحسان مما جعل سلامة حجازي يخرج من خلف الستار ليقول للناس ان هذا الفتى (وكان عمره قرابة العشرين) هو عبقري المستقبل.


العودة الى الإسكندرية:

وحزن سيد درويش لفشله وعاد الى الإسكندرية واستمر يعمل فيها سنوات الحرب العالمية الأولى وكان إذا كسد سوق الغناء ينتقل الى العمل عاملاً او كاتب حسابات في متجر للأثاث القديمة يملكه زوج أخته الكبرى.

وفي خلال عمله الغنائي هناك كان أسمه يتردد في القاهرة على انه ملحن صاحب اتجاه جديد في التلحين، وكانت في القاهرة فرق تمثيلية عدة بعضها يقدم ألواناً هزلية مطعمة بأغان موزونة على (قده) ألحان بسيطة يونانية أو تركية وبعضها يقدم مسرحيات درامية او تراجيدية، وهذه الأخيرة كانت توجد فرقة الممثل التراجيدي الكبير جورج أبيض الذي ضعف الإقبال عليها لأن أحزان الحرب كانت توجه الناس الى اللون الكوميدي للتسلية والترفيه عنهم، ورأى جورج أبيض أن يحول فرقته الى اللون الكوميدي الاستعراضي الغنائي واستدعى سيد درويش من الإسكندرية وكلفه ان يلحن له أول أوبريت باسم (فيروز شاه).


أول أوبريت:

وقبل سيد درويش هذه المهمة وانتقل الى القاهرة وألف ألحان هذه الأوبريت التي كانت شيئاً جديداً تماماً على الموسيقى العربية، ولم تلبث أن أخذ الناس يرددونها وخصوصاً الفنانون المشتغلون في المسارح الغنائية الأخرى، وسمع نجيب الريحاني وهو ممثل كوميدي مشهور وصاحب فرقة مسرحية، سمع بعض أفراد فرقته يغنون في أوقات راحتهم بين البروفات ألحاناً غريبة وجديدة فسألهم عنها ولما عرف قصة هذا الملحن الجديد أسرع بالتعاقد معه ليلحن له أوبيرتاته وألف له ألحان ثاني أوبريت وأسمها (ولو..).


انتشار صيته:

وكانت ظاهرة غريبة إذ انتشرت ألحان هذه الرواية الثانية انتشاراً هائلاً حتى كان يرددها الأطفال في الشوارع والعمال في المصانع والفلاحون في حقول الريف، ولذلك تهافت عليه أصحاب الفرق فكان يؤبف لهم ما يطلبونه إذ أعجبه موضوع الرواية وأعجبه الشعر الشعبي للألحان.

وجاء وقت كانت توجد في القاهرة أربع فرق وعدة صالات للغناء كانت كلها تقدم أوبيرتات من تلحينه.


فرقته الخاصة:

وتضايق من المعاملة الاستغلالية لأصحاب الفرق فكون فرقة خاصة باسمه قدم بها روايتين أحداهما باسم (شهرزاد) والثانية باسم (البروكة)، وكان يؤدي بنفسه دور الفتى الأول.

1- لجهله بشؤون إدارة الفرق والدعاية.
2- ولوجود مسرحه في حي سيئ السمعة يكثر فيه وجود العساكر الاستراليين والانكليز الذين كانوا يعتدون على الناس ويسرقون نقودهم، لهذه الأسباب كان الإقبال ضعيفاً على فرقته الخاصة فاضطر الى حلها وعاد الى التأليف للفرق الأخرى.


مؤلفاته:

في الفترة القصيرة بين حضوره الى القاهرة سنة 1917 وبين وفاته في 15/سبتمبر سنة 1923 وضع ألحان 22 اوبريت والفصل الأول من أول أوبرا شرع في تلحينها بعنوان (كيلوباترا ومارك انطونيو).

وفي خلال حياته الفنية بين الإسكندرية والقاهرة ألف عشرة أدوار للتخت، وهي عبارة عن سيمفونيات عربية و17 موشحاً على النمط القديم ولكن بروح جديدة نحو 50 طقطوقة وهي الأغاني الخفيفة.


وفاته:

وفي قرابة منتصف ايلول سنة 1923 سافر الى الإسكندرية ليكون في استقبال سعد زغلول الزعيم الوطني العائد من المنفى وليحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذي لحنه لاستقباله، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة في مساء 14/سبتمبر ومات فجر 15/سبتمبر في بيت شقيقته.

وفي وسط الاحتفالات الشعبية المهرجانات الوطنية المقامة في الإسكندرية لاستقبال سعد زغلول لم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت في العصر الحديث وشيعت جنازته في احتفال متواضع لم يشيعه فيه الا عدد قليل جداً من أهله وأصدقائه.


شخصيته وأخلاقه:

يقول معاصروه وأصدقاؤه الأحياء وتزيدهم الصور الفوتوغرافية انه كان ممتلئ الجسم قوي العضلات وكان وجهه وسيماً سمحاً وكان مزاجه مرحاً ضاحكاً متفائلاً يميل الى السخرية الجميلة الذاكية من دون مرارة ولا حقد وكان طيب القلب شديد الولاء لأصدقائه ولكل الناس كريماً مفتوح الكف عطوفاً على الفقير والضعيف وكان ذكي العقل والقلب المعنى الفهم حساساً الى أبعد حدود الحساسية، سريع الانفعال سريع النسيان وكان يخص أمه بحب يقرب العبادة ويدللها كأنها طفلة صغيرة، وكان جذاب الشخصية جميل الحديث سريع النكتة.

وبرغم أنه كسب كثيراً من الذهب فانه لم يدخر شيئاً فلم يكن يخاف المستقبل ولم يكن يطمع في مستوى معيشة يبعد به عن الطبقات الشعبية التي ولد وتربى فيها، ولهذا كان يتخلص أولاً بأول من كل ما يكسبه فبعد أن يكفي نفسه وأسرته بما يجعل بيته شبعانا مستوراً سعيداً، كان يسد حاجة المحتاج من أصدقائه او من زملائه الفنانين ثم من الناس الذين لا يكاد يعرفهم وكان يصرف الباقي على مجالات أنسه والهامة وغالباً ما تكون بين أصدقائه وأحبابه.

وفي هذه الصفات تروى الروايات وتحكى الحكايات التي تدل على إنسانيته العميقة وقلبه الكبير، ولم تكن له نزوات غير مفهومة كتلك التي يصاب بها الفنانون، ولكن نزواته كلها كانت مفهومة بمعنى انها لم تكن شذوذاً ينفرد به وحده كذلك الموسيقى الذي كان يحب ان يحمل على كتفه عدداً كبيراً من أواني الصفيح ويلبس قبقاباً خشبياً ويسير هكذا في الطريق أو يقصد هكذا على الرصيف.

اما السيد درويش فلم تكن له نزوة من هذا القبيل وكل ما روي عنه عبارة عن هواية معينة ولكنها هواية بناءة لأنه كان يحب إصلاح أقلام الحبر وكان يتقن هذا العمل برغم انه لم يكن من المهن التي احترفها من قبل.

وكان يمضي سهراته في الأحياء الشعبية ويخالط الناس البسطاء من عمال وباعة وحرفيين وحوذيه ولم يفكر أبداً في الانتساب الى طبقة أعلى من طبقة أسرته، بل ظل على ولائه وحبه للكادحين حتى مات.

ويروى عنه انه في يوم افتتاح مسرح الازبكية وكان قد لحن له أوبريت (هدى) كان الوزير المختص بالمسارح – وقتها وزير الاشغال- يشرف حفل الافتتاح، وبعد إنزال الستار على الفصل الأخير جاء مدير الفرقة يهرول الى الكواليس ويزف الى سيد درويش خبر إعجاب معالي الوزير بموسيقى الرواية وأن معاليه يستدعيه الى مقصورته ليهنئه، ولكن سيد درويش أدار ظهره للمدير وسحب صديقه من يده وذهب به الى حي شعبي عتيق سهرا فيه مع لابسي الجلابيب.


اتجاهاته الفنية:

لم ينل سيد درويش أي تعليم مدرسي في الموسيقى سوى القليل الذي أصابه من التحاقه بضعة شهور بمدرسة إيطالية للموسيقى في الإسكندرية، اما كل ما تعلمه فكان من الاكتساب، اما عن استماعه لمشاهير المقرئين والمطربين، وأما من حفظه عن الموسيقيين القدماء في الإسكندرية وبيروت وحلب والقاهرة، وأما من قراءاته في كتب الموسيقى العربية القديمة وقد روى انه بدأ يتعلم الموسيقى من كتاب اشتراه بائع يعرض كتبه القديمة على رصيف الشارع، وبينما كان سيد درويش ينظر في فترينة هذه المكتبة الفقيرة ليختار كتباً في التاريخ والشعر والأدب وقع نظره على كتاب صغير أصفر الورق وكان في الموسيقى وطلب منه البائع خمسة مليمات أعطاها له وذهب بهذا الكنز الى بيته وأنكب عليه يلتهم ما فيه وذهب فاشترى عوداً قديماً وشرع يتعلم العزف عليه مسترشداً بالكتاب، وفي سن مبكرة جداً (حوالي سن الخامسة عشر) وجد انه قادر على تأليف الموسيقى أو بمعنى آخر وضع الألحان والكلمات الشعرية الفصحة او العامية فأخذ يلحن ووجد انه يلحن أشياء جديدة تختلف عما كان سائداً فتخوف لصغر سنه وقلة تجربته ان يعرض نفسه للسخرية إذا جاهر انه صاحب اللحن أو على الأقل للتكذيب والأفكار ولهذا بدأ ينسب ألحانه لملحن ومغن شهير وقتها أسمه إبراهيم القباني فلما أعاد التجربة ووجد ان هذه الألحان تنال استحسان الناس بدا يقدم نفسه كمؤلف، وكان من الطبيعي لعبقري هذا تاريخه وهذه بيئته وهذه مواهبه وأخلاقه كان من الطبيعي أن يخوض ببيئته معار لشعب كلها من وطنية الى اقتصادية الى اجتماعية، ولهذا اتجهت اعماله كلها هذه الوجهة تعرض وتدا فع عن كل القضايا التقدمية، ولذلك فان كل ألحانه وأهداف اوبريتاته كانت أهدافاً وطنية عامة كما كانت في الوقت نفسه تعكس بشدة مطالب الطبقات الكادحة بجميع فئاتها.

لقد كان زعيم ثورة 1919 هو زعيم البرجوازية الوطنية التي كانت تقود الكفاح السياسي ضد الاحتلال البريطاني ولكن كان الى جانب سعد زغلول يوجد زعيم شعبي آخر هو سيد درويش بكل قوته في المعركة الوطنية ولكن بمفهومات أخرى هي ان الشعب لا يرتمي بكل نفسه وما يملك في أتون المعركة الوطنية ليحصل على استقلال بلده فحسب وإنما ليحصل أيضاً على حقوقه في الحياة الكريمة التي تحققها خيرات بلده، هذه الخيرات التي ينتجها جهده وحده وعرقه وكدحه ومواهبه.

ثم كان من الطبيعي وذلك هو موضوع موسيقى سيد درويش ان يتخذ أسلوباً أو شكلاً تعبيرياً يختلف كل الاختلاف عن الأساليب والأشكال السابقة، لأن الثورة في الموضوع استتبعت الثورة في الأسلوب وهذا انطلقت الموسيقى العربية الحبيسة خارجة من معتقلها في تصور أمراء الإقطاع الى الهواء الطلق والأفاق الرحيبة وإذ تحطمت القيود التي كانت تربط الموسيقى العربية الى ذلك العالم المحدود الأشواق، وصل الأمر بذلك الثائر الجسور المقتحم الواثق من عبقريته الى ان يستعمل في بعض ألحان اوبريتاته المتأخرة مثل (شهرزاد) و(البروكة) (قالب الهرموني ) (الكونترابونت) التي لم تعرفها الموسيقى الشرقية من قبل.

وما زالت اعمال سيد درويش في هذا الباب هي الأولى والأخيرة فلم يتجاسر بعده حتى اليوم احد من الملحنين على أن يخطو خطوة نحو هذا الباب العريض من أبواب الموسيقى، والمجال هنا يضيق. ان استيعاب جميع جوانب الثورات التي أحدثها سيد درويش في الموسيقى العربية عموماً وفي الموسيقى الشرقية خصوصاً لأنه أمر يطول شرحه.



المصدر : بيت الموسيقى

تأملات في تاريخ الخط العربي




كان هناك سببان رئيسيان لتطوير الخط العربي، في السنوات التي تلت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما يتعلق بالحاجة إلى نقل القرآن الذي أنزل على النبي إلى المؤمنين الذين لم يسمعوه فعلاً، والسبب الآخر كان النمو السريع للعالم الإسلامي وحاجة حكامه إلى المقدرة على التواصل مع بعضهم بعضاً.

ومن دون أي خط عربي معروف لدى كل الأطراف، فإن مثل هذا الاتصال كان من المستحيلات. ويخبرنا المؤرخون أن المتطلب الديني كان أساسياً في الإيحاء بهذا النمو، ذلك أن القرآن لا يحتوي فقط على سجل حياة النبي على نحو ما نجد في حياة يسوع في الإنجيل، وإنما هو كلام الله.

وبالتالي كان يتطلب خطاً له خصائص على مستوى رفيع. ومن المعروف أن شعوباً إسلامية مختلفة سعت إلى إضفاء هذه الخاصية على الخط العربي بطرق مختلفة. وهذا التاريخ يعطي تفاصيل كاملة حول كيفية تطور الخط العربي بطرق مختلفة.

والمؤرخ والمستعرب الراحل مارتن لنيغز، وهو أحد أوائل الذين أسلموا من المؤرخين، ألف كتابه «فن خط المصحف وزخرفته» الذي لا يزال يعد عملاً كلاسيكياً في الخط العربي. كما أشار مستشرق آخر إلى أن أهمية الكتابة الحسنة لا يمكن المبالغة بها. فهي بحد ذاتها شكل من أشكال الفن ووسيلة للتزيين، ذلك أن تطبيق فن الخط لم يجري تقييده مطلقاً.

وهناك جدل قائم بأن الخط الإسلامي وصل إلى أوج تعبيره عندما تم تطبيقه على الخزفيات. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في 632 ميلادي، نقلت آيات الذكر الحكيم من قبل الحفاظ، أي أولئك الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب.

وقد قتل عدد كبير من هؤلاء الحفاظ في المعارك التي شنت في الأيام الأولى من الدعوة الإسلامية. وبالتالي ساد الاعتقاد بأنه من الأهمية بمكان أن تكون هناك نسخة واحدة من المصحف، على أن تكون الكتاب الذي على كل مسلم أن يتبعه.

والمصحف الشريف أرسل بعد ذلك إلى المراكز الأربعة للإسلام، مكة والمدينة والبصرة والكوفة من أجل نقل مصاحف عنه. وكل من هذه المدن الأربع طورت أسلوبها، على الرغم من أنه على أساس مصحف الكوفة جاء الخط الأكثر استخداماً والذي أصبح معروفاً بـ «الخط الكوفي»، وهذا الخط هو الأقرب بين كل الخطوط العربية لفن الرسم.

وهذا جعله مثالياً في تزيين النقود وبالتحديد تزيين العمارة، فيما كان الخط العربي يزداد جمالاً مع تطوير الخط الكوفي في القرنين الأولين من الإسلام.

في البداية لم تكن له نقاط أو بعض السمات المميزة، مما أدى إلى تعذر الفهم، لأن بعض الحروف كان لها الشكل نفسه.

 وهذا تغير لاحقاً مع استخدام النظام الذي اخترعه أبو أسود الدؤولي. ولقد استخدم أبو أسود عدة علامات لتحديد «الهمزة» و«الشدة» والمدة« و»السكون« و»التنوين«، وقد صقل الحجاج بن يوسف الشهير هذا النظام باستخدام النقاط أو الحركات فوق الحروف وتحتها لتمييزها عن بعضها.

وبهذه الطريقة تم التوصل إلى حروف الأبجدية الكاملة، أو الحروف العربية كما نراها اليوم. ونسخ مختلفة تم ابتكارها من قبل عدد كبير من الخطاطين أبرزهم ابن مقلة، ولاحقاً ابن البواب، الذي يعود الفضل إليه لاختراعه الخط النسخي المستخدم بشكل واسع.

وفي كتابه يذكر مارتن لينغز ثلاثة خطوط أصبحت مستخدمة في معظم المصاحف، وهذه الخطوط هي المحقق والريحاني والثلث. لكن في شمال أفريقيا والأندلس، فإن الخط اللين المستمد من الكوفي والمعروف باسم »المغربي" كان الأكثر شعبية وتداولاً.

وتشابه المغربي مع الكوفي الأصلي جعله مشهوراً في التزيين والنقش على التصاميم المعمارية والمنسوجات والخزف.

وتحت حكم الأمويين في قرطبة، فإن خطاً كوفياً بسيطاً أو مورقاً قليلاً كان يستخدم، كما في المسجد الكبير. ولاحقاً تم تضفير الخط الكوفي، كما نجد في قصر الحمراء.

اليوم يستمر الاعتقاد بأن الخط العربي فن عظيم، في كل أنحاء العالم الإسلامي وما وراءه. وعلى الرغم من أن استخدام الآلات السريعة جداً قد أدى إلى تراجع طفيف في دور الخطاطين اليوم، فإننا نأمل أن يعمل جيل جيد من الخطاطين على النهوض بهذا الفن الجميل.



بقلم : دنيس جونسون ديفز
المصدر : البيان

الجمعة، 9 يناير 2015

اللباس العربي ..




عُرف اللباس العربي منذ القدم بأنّه "فضفاض" متماشٍ مع الظروف المناخية والبيئية في جزيرة العرب، وساير قيام الحضارات العربية القديمة في الجزيرة وأطراف الشام والعراق، ولا أدل على ذلك إلاّ ما نقلته لنا الروايات والأخبار حتى القصائد والأشعار عن حال العرب في الممالك والحواضر والبوادي.

وعلى الرغم من تعدد الأقاليم والظروف المناخية والجغرافية في كافة أقاليم الجزيرة العربية، إلاّ أنّ معظم المنقولات والروايات التي تتحدث عن الزي العربي تكاد تُجمع على أنّ "العمامة" و"القميص" و"الإزار" و"البردة" لباس عرفه العرب القدماء على اختلاف مشاربهم وتعدد قبائلهم ومناطق سكنهم، وقد دار حول لبس العمامة حديث طويل بين علماء القرنين المنصرمين.


العرب في حضارتهم

وبعد توسع الحضارة الإسلامية في بلاد فارس والروم وصلت طلائع خيل المسلمين إلى بلاد ما وراء النهر "سيحون" و"جيحون"، ودخل "البربر" و"الأحباش" و"الترك" و"الصقالبة" إلى حضارة الإسلام، وتشارك العرب مع غيرهم من الأعراق والحضارات الجديدة، وعرفوا أنواعاً من الأقمشة والأزياء والملابس التي تتماشى مع الأقاليم التي نزلوها، حتى عُرف عن الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز في شبابه أنّه كان كثير الإسراف في لباسه وعطوره؛ لدرجة أنّ الناس يعرفون أنّه مر بهذا الطريق أو ذاك؛ لما يجدونه من أريج عطره الفواح، كما كان الخلفاء من بني أمية وبني العباس يُعرفون بملابسهم وأزيائهم الفاخرة، ولم يكن ذلك معروفاً في زمن الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - وهم الذين كانوا في لباسهم وزيهم كحال عامة الناس في المدينة، بل كانوا يلبسون الثوب الواحد مراراً ويرقعون نعلهم ومآزرهم، حتى لقد وصل عمر الفاروق - رضي الله عنه - بيت المقدس، وفي ثوبه ما يقارب من سبع عشرة رقعة، وكذا كان أبو الحسن علي - رضي الله عنهما - لا تفرق بينه وبين عامة الناس بهندامه وتواضعه.


"القلانس" الطوال

وعُرف العباسيون باللباس الأسود توائماً مع راياتهم السود، وقد ذكر المؤرخون أن "أبا العباس السفاح" - أول خلفاء بني العباس - ترك حين وفاته عدداً من "الجُبب" و"البرد"، وفصَّل بعضهم في ذلك - حتى في ملابسه الداخلية - في حين كان "أبو جعفر المنصور" - ثاني الخلفاء العباسيين - يلبس "القلانس" الطوال، وينام على فراش الحرير؛ بغية تخفيف وطأة حرارة الصيف، وكان رغم تقشفه وبخله يأمر كافة أفراد جيشه أن يلبسوا "القلانس" الطوال حتى لقد هجاه الشاعر "أبو دلامة" بقوله:

وكنا نرجي من إمامٍ زيادة

فجاد بطول زيادة القلانس

تراها على هام الرجال كأنّها

دنان يهود حللت بالبرانس

وقيل: إنّ "هارون الرشيد" - حفيد أبي جعفر - هو أول من لبس "القلنسوة" المعروفة ب "الطويلة الرصافية"؛ نسبة إلى الرصافة أحد أحياء "بغداد"، كما تبعه أبناؤه "الأمين" و"المأمون"، ويذكر المؤرخون قصة طريفة حدثت ل "الأصمعي" في مجلس الرشيد، وذلك حين كان يحدثه عن الأقوام السابقة وعاداتهم وأعرافهم، وعرج في حديثه عن بني أمية، وذكر أنّ "سليمان بن عبدالملك" كان نهماً أكولاً، وكان يخبئ الدجاج المشوي في كمه - جيبه -، فتعجب "هارون الرشيد" من هذه المعلومة وأمر خازن الدار أن يبحث في مخازن دار الخلافة عن لباس سليمان بن عبدالملك، وكان في مخازن القصور العباسية بعض مقتنيات وملابس وأواني بني أمية، فلما أحضرها الخازن وجد الرشيد آثار الدهن في أكمام ملابس سليمان بن عبدالملك، فتعجب من ذلك وأمر الخازن أن يسلمها ل "الأصمعي" هدية له، فكان يزهو بها في شوارع "بغداد"، وإن سئل عنها قال عبارته الشهيرة: "هذه ثياب سليمان بن عبدالملك التي أهدانيها هارون الرشيد".


شخصية "الكوبرا"

وفي منتصف القرن الهجري الثالث أحدث "المستعين بالله" - الخليفة العباسي - تحولاً جذرياً في أزياء ذلك الزمان؛ إذ عمد إلى تقصير "القلانس" وتصغيرها وتوسيع الأكمام، فقلّده بذلك بطانته وحاشيته - وهذا النوع من اللباس هو ما يصوّر لنا الآن في عموم الأعمال الدرامية -، وبعدها تبعته العامة من أهالي "العراق" فلبسوا ما لبسه الخليفة، حتى ظهر الناس في متوسط العصر العباسي بأزياء فاخرة وأقمشة نادرة، لا سيما رجال السلطان وموظفي البلاط والولاة وكبار القادة والسلاطين، وهو ما دفع "ابن المرزبان" - من علماء القرن الثالث الهجري - أن يضع كتابه المشهور "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" وهو يصف أهل زمانه فما بالك بأهل زماننا هذا، في حين كان وصف "الجاحظ" ملابس رجال البلاط وصفاً دقيقاً، بعد أن سخر من نرجسيتهم وتعاليهم على عامة الناس حين سماهم "الطواويس"؛ لأنّهم كانوا يختالون في مشيهم وينفشون ملابسهم، كما ينفش الطاووس ريشه، وهو ما يحاكي في زمننا هذا التشخيص ب "الكوبرا" عند شباب التسعينات الميلادية.


"مصاصة" العرق

كانت "القلانس" لباساً معتمداً في معظم أقاليم البلاد الإسلامية إبان حضارة الإسلام المجيدة، حتى إنّ "أحمد بن طولون" - مؤسس الدولة الطولونية بمصر - أعاد أهالي مصر والشام إلى لباس "القلانس" الطويلة بعد أن كان الخليفة "المستعين بالله" قد نشر "موضة القلانس القصيرة" والأكمام الواسعة.

ويذكر المؤرخ "البلاذري" أنّ "القلانس" دخلت من "الهند" عن طريق القائد العربي المسلم "عباد بن زياد"، فسميت "العبادية"، وكان "الحجاج بن يوسف" يجلس للناس ويلبس "القلانس" الطوال، كما ذكر "د. عبدالعزيز بن حميد" في كتابه "ملابس الخلفاء والآثار الإسلامية" أنّ العمائم كانت تشد ب "الشاشية" أو "العرقية" لحماية العمامة من الاتساخ وتسمى في إيران "العرقجين" وتعريبها "مصاصة العرق"؛ وهي ما نسمّيه في زماننا هذا "الطاقية".


عليمات و"بروتكولات"

يذكر أن المغني "زرياب" - الذي عاش في القرن الرابع الهجري - هاجر من "بغداد" إلى "قرطبة" بالأندلس وهناك ذاع صيته وسطع نجمة حتى بات نديماً للسلاطين وعشيراً لذوي المال واليسار؛ ما دفعه لأن يرسم لنفسه "بروتكولات" خاصة في المطعم والملبس، وهو ما سماه الفرنسيون فيما بعد ب "الإتكيت"، وقد تبناه الإمبراطور الفرنسي "لويس الرابع عشر" في القرن الثاني عشر الهجري، الذي كان يأمر بتوزيع بطاقة أو "تذكرة صغيرة" تبرز فيها التعليمات الخاصة بالاحتفالات التي تقام في قصر "فرساي" بباريس.


ملابس الأجداد

واقتصر لباس الأجداد في مختلف أقاليم الجزيرة العربية على "القميص" و"الإزار"، وتستخدم "الوزرة" الآن في مناطق جنوب المملكة، كما يستخدمها البحارة في الساحلي الشرقي، وبعض المناطق الساحلية الغربية، إلى جانب "الطاقية" بأنواعها "الشالكي" - نسبة إلى الصوف الشالكي - و"المنطيّة" - المنسوجة والشبكية ذات الفتحات - وتسمى أيضاً "المشخلة" وهذه الأنواع من الطواقي تنتشر في كافة مناطق الجزيرة العربية، أمّا "الغترة" - وأشهرها "غترة العطار" - نسبة إلى موردها - التي تلبس فوق "الطاقية"، فهي تنتشر في معظم أقاليم الجزيرة العربية، ولها تطاريز وأقمشة أشهرها "البوال"، كما أنّ لها أنواع متعددة ك "الشقرة" و"الشدفة" و"الذرعة" - مأخوذة في تسميتها من قياسها بالذراع - وكذلك "الحدرية" و"المشوربة"، التي تحوي خطوطاً صفراء وسوداء متقاطعة، وكذلك "الغبانة"؛ المخططة بخيوط صفراء حول الأطراف، وتستخدم حتى يومنا هذا في الحجاز، وتسمى "الغترة المكية".


الغترة الحمراء

ويعتبر "الشماغ" نوع من الغتر - وهو مصطلح تركي مأخوذ من كلمة "يشمك" - بل يسمى "الغترة الحمراء" وكثر استخدامه في وسط الجزيرة العربية في العقود المتأخرة، لا سيما في فصل الشتاء، واشتهر منها فيما مضى "شماع خارق" وعرف بمتانته وكبر حجمه، وكذلك "شماغ ابن نصر" و"العقل" و"البسام"، وهؤلاء هم أشهر الموردين للشماغ قبل أكثر من خمسين عاماً، وكانت تأتي على شكل أثواب أو "طاقات" فيقصها البائع ويبيعها مجزأة، واشتهر في المملكة الشماغ الأحمر كما اشتهر الشماغ الأسود أو الأخضر في نواحي "الشام" و"العراق"، كما كان الأجداد يلبسون "العِمّة" أو العمامة ويبلغ طولها مترين إلى ثلاثة أمتار وعرضها حوالي نصف متر تلف فوق الرأس بدلاً من العقال، ويستخدمها - كما ذُكر بموسوعة الثقافة التقليدية في الجزيرة العربية - "مشايخ العشائر والقبائل" و"علماء الدين" و"المتدينون"، وقد عرف بها "الإخوان" في عهد المؤسس، الذين كانوا يستخدمونها كفناً يحملونه فوق رؤوسهم؛ حتى إذا استشهد أحدهم كفنوه بها.


الشال والعقال

وكان "الشال" نوعا من أنواع الغتر، وأشهر أنواعه ما عرف باسم "الترمة" وكذلك "زبد الرخال" أي صغار الغنم وهو تشبيه لشدة نعومته، وغالباً ما يلبس في الشتاء، ويستورد معظمه من "الهند" و"باكستان"، كما كانت "العصابة" تلبس في المناطق الجنوبية من المملكة، لاسيما في "تهامة"، وتصنع من الجلد وتُزين بالنباتات العطرية، أما "العقال" فكان يصنع في "مكة المكرمة" و"المدينة المنورة" و"جدة" و"القطيف"، إلى جانب "الشطفة" وهي نوع من أنواع العقال لها أربعة أركان تحيط بالرأس وتطزر بالخيوط المذهبة، وكان آخر من لبسها من الملوك الملك فيصل بن عبدالعزيز.


ثياب أوّل

وكان من أشهر ملابس الرجال آنذاك "المقطع" أو "الدراعة"، التي تشبه الثياب في زمننا هذا، إلاّ أنّها أكثر اتساعاً، وكان الثوب "المزند" يلبس في المنطقة الجنوبية، إلى الثوب "المردون" أو "أبو ردون" أو "المذيل"، الذي يسميه أهل الجنوب "المفرج" يقول ابن لعبون:

ولا ثوبي غدا يطرخ شلاحه

يرد القاع ردنه ومتثني

وكذلك كان الثوب "المبقّش" في القصيم و"الشكارة" في حائل و"الملوسن" - أبو ألسنة - المخصص في الغالب لأداء الرقصات الشعبية، هذا عدا الملابس والأردية الخارجية كالمشلح "البشت" و"البيدي" و"الجوخة" و"الجبة" و"الدامر" و"الدقلة" و"الزبون" و"الصاية" و"الفروة".


الزي السعودي

بدأ اللباس في المملكة يميل إلى الأزياء المتداولة الآن، والمعروفة بلباس "الثوب" و"الغترة" و"العقال" منذ بدايات توحيد البلاد في منتصف القرن الهجري المنصرم، وقد عرفت الملابس الناعمة واللينة في منتصف السبعينات الميلادية أي مع ظهور ملامح الطفرة الاقتصادية، التي عمت - بفضل الله - بلادنا، وحينها عرف الشباب أنواعاً من الأقمشة أكثر نعومة، لاسيما مع بداية الثمانينات الميلادية، حيث غابت ثياب "التترو" و"السلك" و"أبو غزالين" المعروفة بثقلها ومتانتها، وظهر جيل جديد من الأقمشة الناعمة التي عرفها أبناء الثمانينات باسم "ثياب الزبدة" لليونتها ونعومتها، كما ظهر جيل جديد من أقمشة الغتر والأشمغة - عدا العطار والعقل والبسام - التي ما زالت محافظة على أصالتها كالشماع المختوم و"أبو هدب"، كما انتشرت موضة الشماغ "العنابي" أواسط الثمانينات الميلادية، وعادت مرة ثانية مع بداية الألفية حتى غلب اللون "العنابي" على اللون الأحمر التقليدي في بعض المدارس وملاعب كرة القدم، ناهيك عن عودة الشباب للون الأصفر في ثيابهم ذات التفصيل الحجازي بعد أن غلب عليها التفصيل الخليجي أواخر الثمانينات، والتي انتشر معها اللون الأحمر في الملابس الشتوية بعد أن ازدهرت منذ منتصف الثمانينات موضة الملابس الرجالية الجاهزة.


"موضات" جديدة

وفي زمننا هذا ما زالت الملابس والأزياء الرجالية محتفظة بقدر كبير من أصالتها وتمسكها بأشكالها التقليدية، لا سيما في "الغترة" و"الشماغ" و"الثوب"، ولا يخالف ذلك ما يبدو عليه بعض الشباب من لبس التكميلة الرياضة في الأماكن العامة؛ إذ يظل الزي التقليدي محافظاً وبقدر كبير على شكله وأصالته ومنذ عقود، إلاّ أنّ أشكال الحياكة والتطريز وأنواع الأقمشة تبدو متجددة ومتغيرة من فترة لأخرى، ورغم ذلك فقد عمد بعض الشباب الآن إلى تتبع خطوط الموضة في اللباس، فقد اندفع بعضهم وراء ما لا يمثلهم ويتنافى مع عادات وتقاليد مجتمعهم في الملابس، إذ كان التقليد الأعمى لمظهر مشاهير الغرب خلف ظهور موضات غريبة بين أواسط الشباب ك "طيحني" و"بابا سامحني" و"سكيني"، فصار بعضهم يجري وراء صرخات الأزياء وآخر المستجدات فيها، وأصبح ارتدائهم الزي التقليدي مقتصراً في الغالب على المناسبات الاجتماعية والأعياد.



المصدر : جريدة الرياض

قصة «علم المملكة».. راية التوحيد باقية




أثبتت الدراسات التاريخية أن علم المملكة الذي تتوسطه عبارة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) جاء متوارثاً من تلك الراية التي كان يحملها حكام آل سعود حين نشرهم للدعوة وتوسيع مناطق نفوذهم أبان الدولة السعودية الأولى.

وقال الباحث والمؤرخ «عبدالرحمن الرويشد» في حديث ل «الرياض» إن الراية أبان الدولة السعودية الأولى كانت خضراء مشغولة من «الخز» و«الإبريسم»، وقد كتب عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأنها كانت معقودة على سارية بسيطة، وأن هذه الراية استمرت من عهد المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود وابنه الإمام عبدالعزيز بن محمد وابنه الإمام سعود بن عبدالعزيز وابنه الإمام عبدالله بن سعود حيث يقول: إن علم المملكة اليوم هو نفس الراية والبيرق الذي كان يحمله جند الدولتين (السعودية الأولى والثانية) منذ نشأتها، وهو عبارة عن قطعة من القماش الأخضر خط في منتصفها بخط واضح عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتحت العبارة رُسِمَ سيف، يرمز إلى القوة والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة التوحيد خفاقة في ربوع الكون، مضيفاً أنه ومراعاة لالتزام مواصفات معينة لأطواله، نصت التعليمات على أن يكون العلم الوطني مستطيل الشكل، عرضه يساوي ثلثي طوله، ولونه أخضر، يمتد من السارية إلى نهاية العلم، وتتوسطه عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأسفل العبارة سيف مسلول، تتجه قبضته إلى القسم الأدنى من العلم.


علم خاص

وأضاف «الرويشد» أن هناك تعليمات تنص على أن يكون هناك علم خاص للملك، يطابق العلم الوطني في أوصافه، ويطرز في الزاوية الدنيا منه والمجاورة لسارية العلم شعار المملكة، ذاكراً أنه مع تصاعد الصراع البريطاني الفرنسي جاء «دومنغو باديا ليبيلخ» الذي تظاهر بالإسلام وتخفى تحت اسم «الحاج علي العباسي» ليعمل لحساب «نابليون الثالث»، وليسبر غور الحركة الإصلاحية في نجد، حيث وصل ذلك العميل إلى مكة في 14 من ذي القعدة عام 1221ه الموافق (شهر يناير 1807)، وأتيح لهذا الجاسوس حينها فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة، البالغ عددهم 45 ألف وهم في ثياب الإحرام، كما شاهد جيش سعود وأتباعه يزحفون داخل مكة ليؤدون المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، كما ذُكر أن «جون لويس بوكهارت» الذي وصف جيش الإمام سعود بن عبدالعزيز قد دوّن في ملاحظاته أن لدى كل شيخ أو أمير من أمراء الإمام سعود راية خاصة، وأن سعوداً يمتلك عدداً من الرايات المختلفة.


مشهد رائع وفريد

ويشير «الرويشد» إلى أن أول راية رفعت في العصر السعودي الأول كانت عام 157ه (1744م)، موضحاً أن «ابن بشر» ذكر في تاريخه أن الإمام عبد العزيز بن محمد الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود كانا يبعثان رسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلوماً على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل، موضحاً أن القبطان الإنجليزي «آي آر بيرس» شاهد من على ظهر سفينة «بيرسيوس» التابعة للبحرية البريطانية استعدادات مبارك الصباح والإمام عبدالرحمن الفيصل ل»معركة الصريف»، حيث وصف الاستعدادات: «حقاً لقد كان المشهد رائعاً وفريداً وأظن أنه كان هناك ما لا يقل عن عشرة آلاف رجل وكان من بينهم قوات آل سعود التي كانت تحمل راية خضراء اللون وقد كتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله).


رياض الجنة

وأوضح الباحث «الرويشد» أنه كان يتولى خياطة الرايات وإعدادها والكتابة عليها أهل بيت معروف في الرياض، ويذكر أن آخر من تولى شأن راية الملك عبدالعزيز هو «عبد الله بن محمد بن شاهين»، ثم أوكل الأمر بعد ذلك إلى الوجيه الشيخ «سعد بن سعيد» وابنه «عبدالمحسن بن سعد بن سعيد» من أهل الرياض، ثم آل أمرها فيما بعد إلى جهات اختصاصها، وفي يوم 12/1/1357ه الموافق 13/3/1938م صدر نظام رفع العلم بالأمر السامي الكريم رقم 1/4/7 ونشر في الجريدة الرسمية، لافتاً إلى أن اللون الأخضر اختير كرمز إلى رياض الجنة، وعبارة التوحيد تعبيراً عن وحدانية الله والتأكيد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله وخاتم النبيين، وقد ذكر الريحاني في تاريخه: أن الراية التي حملها الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان، ثم تغير شكلها – بعد ذلك – فضمت سيفاً واحداً تحت كلمة الشهادة كتب تحته «نصر من الله وفتح قريب».


حاملوا البيرق

ويعدد «عبدالرحمن الرويشد» أبرز من حمل البيرق في العصور السعودية على النحو التالي: أولاً «إبراهيم بن طوق»: من أسرة آل طوق (المعامرة) من سكان الدرعية، ولم يمددنا التاريخ بمزيد من المعلومات عنه، ولا عما كانت تتطلبه مهنة حمل الراية، وإن كان «ابن بشر» قد أفادنا في تاريخه أن الإمام عبدالعزيز الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى وابنه سعود كانا يحددان مكاناً معلوماً على ماء معين في يوم معروف لاجتماع الناس، وأنه يتقدم إلى ذلك المكان لرفع الراية (البيارق) التي تنصب على ذلك المورد، وعندما تناول ابن بشر سيرة الإمام (تركي) مؤسس الدولة السعودية الثانية قال: كان ذلك الإمام يكتب لأمراء البلدان يأمرهم بالخروج والاجتماع في مكان معين، ثم يخرج الراية من قصره فتنصب قريبة من باب قصر الحكم في الرياض قبل خروجه بيوم أو يومين، مضيفاً أن ثاني من حمل البيرق هو «عبدالله أبو نهية»: وقد أشار إليه المؤرخ «ابن بشر» وإلى بطولاته ومواقفه في الدفاع عن بلدة الدرعية عند حصارها عام 1233ه (1818م)/ وآل «أبو نهية» أسرة عريقة من أسر الدرعية تسكن بقيتهم اليوم مدينة الأحساء وما حولها، وقد توفي «عبدالله أبو نهية» إبان ذلك الحصار الغاشم عام 1233ه (1818م)، وثالثهم هو «الحميدي بن سلمة» و»آل سلمة» أسرة من أسر الرياض المعروفة منذ القدم، ويتذكر الناس عدة أسماء من هذه الأسرة ممن حمل الراية في الدولة السعودية الثانية، منهم «الحميدي» الذي توفي في أحد المعارك، ذاكراً رابع من حمل البيرق وهو «صالح بن عبدالله بن هديان» من أسر الرياض المعروفة، وقد حمل الراية في آخر الدولة السعودية الثانية وأول الثالثة، كما كان ممن حمل راية أبناء سعود بن فيصل، وقد كلفه الملك عبدالعزيز بحمل راية حجاج العارض السنوية التي كان ينطلق بها مع الراية في كل سنة، ويلتف حولها الحجاج حتى مكة، ثم يعود بها مع القوافل إلى حيث انطلقوا، وقد ظل ذلك التقليد متبعاً في أول عهد الملك عبدالعزيز حتى إعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351ه (1932م).


توفي الاثنان معاً

ويستمر «الرويشد» في سرد أسماء حاملي البيرق حيث ذكر أن خامسهم هو «إبراهيم الظفيري» من قبيلة «الظفران» وهي أسرة متحضرة من أسر الرياض، لهم بساتين نخيل غربي الرياض، تعرف بنخيل «الظفران»، ثم عرفت فيما بعد ب (الشرقية) في الرياض، وقد حمل «إبراهيم» الراية ل (عبدالله بن فيصل) ثم لأخيه (سعود بن فيصل) ثم وكلت إليه رئاسة قلعة الحامية في جزيرة قطر، وهي قلعة سعودية كانت تحمى من قبل الدولة السعودية قديماً، موضحاً أن السادس هو «عبداللطيف بن حسين المعشوق» من أسرة «آل المعشوق» المعروفة، من سكان الدرعية ثم الرياض، ولهم صلة قديمة بالأسرة السعودية في أدوارها الثلاثة، ويلقب هذا البيارقي الشجاع بلقب «الشليقي»، وكان قد حمل الراية للإمام (سعود بن فيصل) وعندما خرج الإمام (عبدالرحمن) بعائلته إلى الكويت التحق بهم آل المعشوق، وكان «عبد اللطيف» أول من حمل الراية للملك عبدالعزيز عام 1319ه (1902م)، وتوفي في معركة البكيرية عام 1322ه (1904م) بعد أنه شهد كل المعارك قبلها، حاملاً الراية الخضراء، ولم يتخلف حتى عن غزوة واحدة، مبيناً «الرويشد» أن «منصور بن عبداللطيف المعشوق» هو سابع من حمل البيرق وهو ابن حامل الراية السابق، حيث حمل راية الملك عبدالعزيز في المعركة نفسها، ولم يلبث أن توفي تحت الراية ودفن الاثنان معاً في أرض البكيرية.


ظروف استثنائية

وكشف الباحث «الرويشد» أن «عبدالرحمن بن مطرف» هو ثامن من حمل البيرق حيث تسلم الراية بعد آل معشوق وحملها في معركة «روضة مهنا» عام 1324ه (1906م)، وأصيب بعدة جراحات، وكان يحمل الراية أثناء علاج جراحة شخصيات أخرى، لكنه يعود إلى حملها حتى تم للملك عبدالعزيز توحيد مملكته، بل وحملها في أوقات السلم وقبلها أيام الحرب، ثم حملها ابنه «منصور» ثم حفيده «مطرف» ثم «عبدالرحمن بن مطرف بن منصور الثاني»، وما تزال الراية المظفرة في يد «آل مطرف»، وهم أسرة معروفة من أسر الرياض، موضحاً أنه ما دمنا بصدد تعداد من حملوا الراية السعودية المظفرة ممن أشار إليهم التاريخ أو تداولت ذكرهم الألسنة، فإن من الإنصاف أن نشير إلى رجال آخرين حملوا هذه الراية في ظروف استثنائية، وخاضوا بها بعض المعارك، مثل: «علي بن حويل» من آل حويل، و»إبراهيم بن ودعان» و»محمد بن عبدالله بن ريس» وغيرهم، وجميعهم من أهل الرياض، مؤكداً أن لكل بلدة من بلدان نجد، ولكل هجرة من هجر البادية، علم يحمله شخص من بينهم، وهو العلم الوطني نفسه الذي يحمله الحاكم من آل سعود، الذي ينطلق من عاصمة ملكه.


اللون الذهبي

ويتحدث الباحث «الرويشد» عن العلم الخاص بالملك فيقول: إنه في عهد الملك فيصل - يرحمه الله - صدر الأمر الملكي رقم م/3 في 10/2/1393ه (1973م) الخاص بنظام العلم السعودي، وجاء من ضمن فقراته استحداث علم الملك الخاص، وهو العلم الوطني مضافاً إليه شعار المملكة باللون الذهبي في الركن الأيمن أسفل العلم، على النحو الآتي: «أن يكون لجلالة الملك علم خاص يطابق العلم الوطني بأوصافه، ويطرز في زاويته الدنيا المجاورة لعود العلم شعار الدولة وهو السيفان المتقاطعان تعلوها نخلة، ويطرز بخيوط حريرية مذهبية».


لا يلف على الأكفان

يذكر أن العلم السعودي لم يسبق له في عمره الطويل أن لفَّ على أكفان أو جثث للموتى من الملوك والقادة، كما نص النظام على ألا ينكس أبداً في مناسبات الحداد، ولا يحنى لكبار الضيوف عند استعراض حرس الشرف كما هو معروف في كثير من الدول، وهي ميزة ينفرد بها عن باقي أعلام العالم، كما ورد في نظام استعمال العلم في حالة الحداد (المادة 16) أنه يرفع العلم السعودي الخالي من كلمة التوحيد منكساً في المدة المقننة لهذا الغرض، وفي (المادة 17) يكون تنكيس العلم الخالي من شعار التوحيد بوضعه في منتصف العمود المنصوب عليه.



المصدر : جريدة الرياض

الأربعاء، 7 يناير 2015

من مباريات كأس العالم 90 .. الكاميرون ضد إنجلترا




قليلةٌ هي المباريات التي حُفرت في ذاكرة عُشاق المستديرة الساحرة من كأس العالم FIFA 1990 مثل مباراة ربع النهائي الملحمية بين إنجلترا والكاميرون. فقد جمع هذا اللقاء التاريخي بكافة المقاييس بين منتخبٍ إنجليزيٍ يستقي إلهامه من صانع الألعاب المخضرم والفنان الكروي من الطراز الرفيع بول جاسكوين ومنتخبٍ كاميروني لا يزال يعيش نشوة انتصاره في مباراته الافتتاحية على الأرجنتين ومهرجان الأهداف المستمر من جانب ابن الثامنة والثلاثين روجيه ميلا. وكان لهذه المباراة أن أعادت كتابة اسمي طرفيها في تاريخ البطولة بحروف من ذهب.

فقبل إيطاليا 1990، قلائل هم من توقعوا أن تصبح الكاميرون أول دولة أفريقية تصل إلى الدور ربع النهائي في عروس البطولات. لكن بعد تحقيق مفاجأة مدوية والتغلب على الأرجنتين حاملة اللقب العالمي، زادت عزيمة الأسود غير المروضة وتمكنت من التغلب في أعقاب ذلك على كلٍّ من رومانيا وكولومبيا بنتيجة 2-1 واقتنصت بكل شرف بطاقة التأهل إلى الدور ربع النهائي. وفي المقابل، كان الحظ من نصيب إنجلترا بتغلبها على بلجيكا في الدور الثاني، لكن منتخب الأسود الثلاثة كان يمني نفسه بالوصول إلى المربع الذهبي بعد أن حرمه المنتخب الأرجنتيني بقيادة دييجو مارادونا من هذا الشرف في النسخة السابقة عام 1986.  

وكانت الجماهير المحتشدة في سان باولو تقف إلى جانب منتخب الكاميرون منذ المباراة السابقة التي خاضها على نفس الملعب في ثمن النهائي والتي أحرج فيها ميلا الحارس الكولومبي رينيه هيجويتا كثيراً. لكن ممثلي القارة السمراء كانوا يفتقرون في مباراة دور الثمانية إلى خدمات الرباعي المخضرم أندريه كانا وإميل مبوه وفيكتور نديب وجولس أونانا بسبب عقوبة الإيقاف. وعلى غرار القاء السابق، بدأ القناص الماهر ميلا هذه المباراة جالساً على دكة الاحتياط، وهو الذي كان قد حصد أربعة أهداف حتى الآن في البطولة حتى هذا الوقت. إلا أن المدرب الروسي فاليري نيبومنياتشي سيختار الوقت الأمثل كعادته ليطُلق العنان لورقته الرابحة ويقلب بها الأمور قبل أن تُحسم نتيجة اللقاء.

استحوذ الفريق الإنجليزي، الذي كان يلعب بعناصره الأساسية كاملة، على الكرة في الدقائق الأولى من عمر المباراة. لكن الكاميرون هي التي أتت بفرصة التهديف الأولى عندما تبادل لويس مفيدي الكرة مع زميله فرانسوا أومام في تهديدٍ حقيقيٍ لمرمى حامي العرين الإنجليزي بيتر شيلتون، الذي تمكن من الوقوف في وجه تسديدة أومام الأولى، ثم تنفّس الصعداء عندما جاورت متابعة مفيدي القائم الأيسر وبقيت الشباك ساكنة.

اعتبرت الأسود غير المروضة ذلك بمثابة مؤشر على قدرتها في السيطرة على مجريات المباراة. فتحرك مفيدي في أرجاء المستطيل الأخضر واستطاع خلق فرصتين متتاليتين للتهديف عَلَت إحداهما العارضة، بينما ارتدّت الثانية من القائم بعد أن أبعدها شيلتون. ورغم أن تفوق الكاميرون على الأرض، كان لإنجلترا قولٌ آخرٌ بتسجيلها هدف المباراة الأول في الدقيقة الخامسة والعشرين، إذ أرسل تيري بوتشر كرة لستيوارت بيرس مخترقاً الجناح الأيسر ليقوم لاعب قلب الدفاع بتحويلها عالية متقنة باتجاه القائم البعيد حيث وجدت رأس ديفيد بلات، الذي سبق وسجل هدف الفوز الغالي في شباك بلجيكا. ولم يكن بيد الحارس المخضرم توماس نكونو حيلة أمام كرة بلات التي أفقدت الشباك عذريتها.

وباستثناء رأسية توماس ليبيه التي ارتقى لها شيلتون بنجاح، لم تسنح أمام منتخب الكاميرون فرص تهديفٍ هامة فيما تبقى من الشوط الأول. وسرعان ما كانت عيون الجميع تتطلع إلى مضمار الجري مع بدء ميلا بتمارين التحمية البدنية بحلة جديدة، حيث بدا حليق الرأس كلياً. دخل اللاعب المخضرم هذه المعمعة الكروية مع انطلاق الشوط الثاني، وفي الدقيقة الحادية والستين، وبعد وقت قصير من إرسال جاري لينكر كرة عالية لم تشكل خطراً على مرمى ممثل القارة السمراء، ساعد ميلا في معادلة النتيجة. كان هذا النجم الاستثنائي يعدو للاستحواذ على الكرة من تمريرة أرسلها زميله أومام، لكن جاسكوين تعمّد عرقلته داخل منطقة الجزاء، وما كان من إيمانويل كوندي سوى أن ترجم ضربة الجزاء إلى هدفٍ غالٍ تعادل بموجبه طرفا المباراة.

ومع وقوف جماهير نابولي إلى جانب منتخب الأسود غير المروضة، زادت حدة الإثارة والحماس على المدرجات بشكل كبير. وتمكن أومام من اختراق الصفوف ومرر الكرة إلى سيريل ماكاناكي الذي كادت كرته أن تدخل المرمى. وبالكاد تمكن أبناء المدرب روبسون من رصّ صفوفهم مجدداً قبل أن يدخل شباكهم هدفٌ آخرٌ. حيث تمكن ميلا من تجاوز جاسكوين ومارك رايت وبلات قبل أن يرسل الكرة إلى يوجين إيكيكيه. وكان هذا المهاجم الفذ قد دخل إلى الملعب قبل دقيقتين فقط ولكنه سرعان ما أثبت علوّ كعبه وسدد كرة عالية مرّت فوق شيلتون ووجدت طريقها إلى عرين منتخب الأسود الثلاثة. ومع هذا الهدف التهبت حماسة الكاميرون وجمهورها بطريقة جنونية.

تخلى بعد ذلك المنتخب الإنجليزي عن أسلوبه الدفاعي إلى حدٍّ كبير، لكن نقطة التحول في المباراة كانت عندما ضيّع الفريق الكاميروني فرصة تسجيل هدفٍ آخر وضمان الفوز، حيث فشل أزمام في هز الشباك بعد أن تبادل الكرة مع ميلا بطريقة رائعة. وكان عليه فور ذلك أن يدفع الثمن غالياً. فعلى الجانب الآخر من الملعب، مرر رايت الكرة إلى لينكر لكن الكاميروني بنيامين ماسينج عرقله داخل منطقة الجزاء. وكان للإنجليز ما أرادوا عندما نجح مهاجمهم بترجمة ضربة الجزاء إلى هدف عبر تسديد الكرة إلى الجانب الأيسر من الحارس نكونو، ليستعيدوا بذلك بارقة الأمل على بُعد سبع دقائق فقط من نهاية عمر المباراة.

استمرت الإثارة في تلك الأمسية الصيفية الرطبة في نابولي، وكذلك كان الحال بالنسبة للخطر المحدق بمرمى المنتخب الإنجليزي، حيث تمكن شيلتون من التصدي لتسديدة أرضية من جانب اللاعب الفذّ أومام. ثم تواصل السيناريو نفسه في الوقت الإضافي، حيث عاد أومام وماكاناكي وميلا لتهديد مرمى منتخب الأسود الثلاثة دون أن ينجحوا بهز الشباك. لكن اللحظة الحاسمة أتت في الدقيقة الخامسة بعد المئة ولكن في الجهة الأخرى من الملعب، حيث تحصّل لينكر على الكرة من تمريرة أرسلها زميله جاسكوين، ليجد نفسه محاصراً  بين الحارس نكونو والمدافع ماسينج، فلم يتردد الحكم في منح ضربة جزاء جديدة. وقام لينكر، الفائز بجائزة الحذاء الذهبي في النسخة السابقة من البطولة في المكسيك 1986، بتسديد ضربة الجزاء الثانية التي يضطلع بها في هذه المباراة ونجح بترجمتها إلى هدفٍ آخر لتصبح النتيجة 3-2.

لم ينجح لاعبو الكاميرون في الرد ومعادلة النتيجة لتحجز إنجلترا بطاقة التأهل إلى الدور نصف النهائي للمرة الأولى منذ عام 1966. وفور انطلاق صافرة النهاية، تعالت هتافات الجماهير الإنجليزية على المدرجات قائلة "هيا فلنرقص على أنغام الديسكو"، بينما مسح المدرب روبسون دمعة فرح سالت على خده قبل أن يبدأ بالتفكير في المواجهة المقبلة التي كان يتعين على فريقه خوضها في المربع الذهبي أمام خصم قديم وعملاق هو منتخب ألمانيا الغربية. أما بالنسبة لأفراد منتخب الكاميرون، فقد دفعتهم روحهم الرياضية للقيام بجولة شرف حول الملعب، وهو أقل ما يستحقه هذا الفريق الذي أضاف بأسلوبه الكروي الرائع نكهة خاصة على بطولة شهدت شُحاً بالأهداف.



المصدر : موقع الفيفا

محمود سامي البارودي : 1839 - 1904




المولد والنشأة :

ولد محمود سامي البارودي بالقاهرة في (27من رجب 1255 هـ - 6 من أكتوبر 1839م) لأبوين من الجراكسة ، وجاءت شهرته بالبارودي نسبة إلى بلدة  "إيتاي البارود" التابعة لمحافظة البحيرة  .

وقد ولد البارودى في حي باب الخلق بالقاهرة لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي) ، وكان أجداده ملتزمي إقطاعية ايتاى البارود بمحافظة البحيرة ،  ويجمع الضرائب من أهلها ، يعتبر البارودي رائد الشعر العربي الحديث الذي جدّد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً ، ولقب باسم فارس السيف والقلم .

نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كان ضابطا في الجيش المصرى برتبة لواء ، وعُين مديرا لمدينتي بربر ودنقلة فى السودان ، ومات هناك وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره .

نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كان ضابطًا في الجيش المصري برتبة لواء ، وعُين مديرًا لمدينتي "بربر" و"دنقلة" في السودان ، ومات هناك ، وكان ابنه محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره .

تلقى البارودي دروسه الأولى في بيته ، فتعلم القراءة والكتابة ، وحفظ القرآن الكريم ، وتعلم مبادئ النحو والصرف ، ودرس شيئًا من الفقه والتاريخ والحساب ، ثم التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة (1268هـ = 1852م) ، وفي هذه الفترة بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول ، وبعد أربع سنوات من الدراسة تخرّج برتبة "باشجاويش" ثم سافر إلى إستانبول مقر الخلافة العثمانية ، والتحق بوزارة الخارجية ، وتمكن في أثناء إقامته من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما ، وحفظ كثيرًا من أشعارهما ، ودعته سليقته الشعرية المتوهجة إلى نظم الشعر بهما كما ينظم بالعربية ، ولما سافر الخديوي إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة ، ألحق البارودي بحاشيته ، فعاد إلى مصر بعد غيبة طويلة امتددت ثماني سنوات ، ولم يلبث أن حنّ البارودي إلى حياة الجندية ، فترك معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشي .  


حياة الجندية :

وفي أثناء عمله بالجيش اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة (1282 هـ - 1865م) لمساندة جيش الخلافة العثمانية في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة "كريت" ، وهناك أبلى البارودي بلاء حسنًا ، وجرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه ، ويصف جانبًا من الحرب التي خاض غمارها .

وبعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية ياورًا خاصًا للخديوي إسماعيل ، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام ، ثم تم تعيينه كبيرًا لياوران ولي العهد "توفيق بن إسماعيل" في (ربيع الآخر 1290هـ - يونيو 183م) ، ومكث في منصبه سنتين ونصف السنة ، عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبًا لسره (سكرتيرًا) ، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش .

ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب ، كان البارودي ضمن قواد الحملة الضخمة التي بعثتها مصر ، ونزلت الحملة في "وارنة" أحد ثغور البحر الأسود ، وحاربت في "أوكرانيا" ببسالة وشجاعة، غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين ، وألجأتهم إلى عقد معاهدة "سان استفانوا" في (ربيع الأول 1295هـ - مارس 1878م) ، وعادت الحملة إلى مصر ، وكان الإنعام على البارودي برتبة "اللواء" والوسام المجيدي من الدرجة الثالثة ، ونيشان الشرف ، لِمَا قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة . 


العمل السياسى :

بعد عودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في (ربيع الآخر 1295هـ - إبريل 1878م) ، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة ، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها ، بعد أن غرقت البلاد في الديون ، وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية ، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية ، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة ، وظهر تيار الوعي الذي يقوده "جمال الدين الأفغاني" لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار ، وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته ، توقظ النائم وتنبه الغافل .

وبينما كان محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار يحاول أن يضع للبلاد دستورًا قويمًا يصلح أحوالها ويرد كرامتها ، فارضًا على الوزارة مسؤوليتها على كل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب ، إذا بالحكومة الإنجليزية والفرنسية تكيدان للخديوي إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة ، وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني الغيور، وأثمرت سعايتهما ، فصدر قرار من الدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق .

ولما تولّى الخديوي توفيق الحكم سنة (1296هـ - 1879م) أسند نظارة الوزارة إلى شريف باشا ، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظرًا للمعارف والأوقاف ، ونرى البارودي يُحيّي توفيقًا بولايته على مصر ، ويستحثه إلى إصدار الدستور وتأييد الشورى .

غير أن "توفيق" نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال في الإصلاح ، فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد ، وشرد أنصاره ومريديه ، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته ، وقبض هو على زمام الوزارة ، وشكلها تحت رئاسته ، وأبقى البارودي في منصبه وزيرًا للمعارف والأوقاف ، بعدها صار وزيرًا للأوقاف في وزارة رياض .

وقد نهض البارودي بوزارة الأوقاف ، ونقح قوانينها ، وكون لجنة من العلماء والمهندسين والمؤرخين للبحث عن الأوقاف المجهولة ، وجمع الكتب والمخطوطات الموقوفة في المساجد ، ووضعها في مكان واحد ، وكانت هذه المجموعة نواة دار الكتب التي أنشأها "علي مبارك" ، كما عُني بالآثار العربية وكون لها لجنة لجمعها ، فوضعت ما جمعت في مسجد الحاكم حتى تُبنى لها دار خاصة ، ونجح في أن يولي صديقه "محمد عبده" تحرير الوقائع المصرية ، فبدأت الصحافة في مصر عهدًا جديدًا .

ثم تولى البارودي وزارة الحربية خلفًا لرفقي باشا إلى جانب وزارته للأوقاف ، بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقي ، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند ، لكنه لم يستمر في المنصب طويلاً ، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته (25 من رمضان 1298 - 22 من أغسطس 1881م) ، نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء، الذي دس له عند الخديوي .


وزارة الثورة :

عاد البارودي مرة أخرى إلى نظارة الحربية والبحرية في الوزارة التي شكلها شريف باشا عقب مظاهرة عابدين التي قام بها الجيش في (14 من شوال 1298 هـ - 9من سبتمبر 1881م) ، لكن الوزارة لم تستمر طويلاً ، وشكل البارودي الوزارة الجديدة في 5 من ربيع الآخر 1299هـ - 24 من فبراير 1882م ، وعين "أحمد عرابي" وزيرًا للحربية ، و"محمود فهمي" للأشغال ، ولذا أُطلق على وزارة البارودي وزارة الثورة ، لأنها ضمت ثلاثة من زعمائها .

وافتتحت الوزارة أعمالها بإعداد الدستور ، ووضعته بحيث يكون موائمًا لآمال الأمة ، ومحققًا أهدافها ، وحافظا كرامتها واستقلالها ، وحمل البارودي نص الدستور إلى الخديوي ، فلم يسعه إلا أن يضع خاتمه عليه بالتصديق ، ثم عرضه على مجلس النواب .


الثورة العرابية : 

تم كشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال البارودي وعرابي ، وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين ، فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى أقاصي السودان ، ولمّا رفع "البارودي" الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه ، رفض بتحريض من قنصلي إنجلترا وفرنسا ، فغضب البارودي ، وعرض الأمر على مجلس النظار ، فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقًا للدستور ، ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب ، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي ، وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة ، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على دسائسه .

انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف ، وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية ، منذرتين بحماية الأجانب ، وقدم قنصلاهما مذكرة في (7 من رجب 1299هـ - 25 من مايو 1882م) بضرورة استقالة الوزارة ، ونفي عرابي ، وتحديد إقامة بعض زملائه ، وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق ، ولم يكن أمام البارودي سوى الاستقالة ، ثم تطورت الأحداث ، وانتهت بدخول الإنجليز مصر ، والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها ، وحُكِم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام ، ثم خُفف إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب .  


البارودي فى المنفى :

أقام البارودي في الجزيرة سبعة عشر عامًا وبعض عام ، وأقام مع زملائه في "كولومبو" سبعة أعوام ، ثم فارقهم إلى "كندي" بعد أن دبت الخلافات بينهم ، وألقى كل واحد منهم فشل الثورة على أخيه ، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها ، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف ، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام .

وطوال هذه الفترة قال قصائده الخالدة ، التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن ، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه ، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله ، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض ، وفقدان الأهل والأحباب ، فساءت صحته ، واشتدت وطأة المرض عليه ، ثم سُمح له بالعودة بعد أن تنادت الأصوات وتعالت بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في (6 من جمادى الأولى 1317هـ - 12من سبتمبر 1899م) .  


شعر البارودي : 

يعد البارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث ، حيث وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه ، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة ، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة ، وربطه بحياته وحياة أمته .

وهو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم ، فإن له مع ذلك تجديدًا ملموسًا من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه ، وله معان جديدة وصور مبتكرة .

وقد نظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاء ورثاء ، مرتسمًا نهج الشعر العربي القديم ، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم ، فهو الضابط الشجاع ، والثائر على الظلم ، والمغترب عن الوطن ، والزوج الحاني ، والأب الشفيق ، والصديق الوفي .

وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت ، طبع في أربعة مجلدات ، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري ، أطلق عليها "كشف الغمة"، وله أيضًا "قيد الأوابد" وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع ، و"مختارات البارودي" وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي ، يبلغ نحو 40 ألف بيت .  


وفاته : 

بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي ، وفتح بيته للأدباء والشعراء ، يستمع إليهم ، ويسمعون منه ، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران ، وإسماعيل صبري ، وقد تأثروا به ونسجوا على منوال ه، فخطوا بالشعر خطوات واسعة ، وأُطلق عليهم "مدرسة النهضة" أو "مدرسة الأحياء" .

ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في (4 من شوال 1322 هـ - 12 من ديسمبر 1904م) .